فصل: المسألة الثَّانِيَةُ: قوله تعالى: {لِمَا يُحْيِيكُمْ}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المسألة الرابعة: قوله تعالى: {واعلموا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ}:

يختلف تفسيره بحسب اختلاف الناس في الجبر والقدر.
أما القائلون بالجبر، فقال الواحدي حكاية عن ابن عباس والضحاك: يحول بين المرء الكافر وطاعته، ويحول بين المرء المطيع ومعصيته، فالسعيد من أسعده الله، والشقي من أضله الله.
والقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء، فإذا أراد الكافر أن يؤمن والله تعالى لا يريد إيمانه يحول بينه وبين قلبه.
وإذا أراد المؤمن أن يكفر والله لا يريد كفره حال بينه وبين قلبه.
قلت: وقد دللنا بالبراهين العقلية على صحة أن الأمر كذلك وذلك لأن الأحوال القلبية إما العقائد وإما الإرادات والدواعي.
أما العقائد: فهي إما العلم، وإما الجهل.
أما العلم فيمتنع أن يقصد الفاعل إلى تحصيله إلا إذا علم كونه علمًا ولا يعلم ذلك إلا إذا علم كون ذلك الاعتقاد مطابقًا للمعلوم ولا يعلم ذلك إلا إذا سبق علمه بالمعلوم وذلك يوجب توقف الشيء على نفسه وأما الجهل فالإنسان ألبتة لا يختاره ولا يريده إلا إذا ظن أن ذلك الاعتقاد علم، ولا يحصل له هذا الظن إلا بسبق جهل آخر، وذلك أيضًا يوجب توقف الشيء على نفسه، وأما الدواعي والإرادات فحصولها إن لم يكن بفاعل يلزم الحدوث لا عن محدث، وإن كان بفاعل فذلك الفاعل إما العبد وإما الله تعالى، والأول باطل، وإلا لزم توقف ذلك القصد على قصد آخر وهو محال، فتعين أن يكون فاعل الاعتقادات والإرادات والدواعي هو الله تعالى، فنص القرآن دل على أن أحوال القلوب من الله، والدلائل العقلية دلت على ذلك، فثبت أن الحق ما ذكرناه.
أما القائلون بالقدر فقالوا: لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم، وبيانه من وجوه:
الوجه الأول: قال الجبائي: إن من حال الله بينه وبين الإيمان فهو عاجز، وأمر العاجز سفه، ولو جاز ذلك لجاز أن يأمرنا الله بصعود السماء، وقد أجمعوا على أن الزمن لا يؤمر بالصلاة قائمًا، فكيف يجوز ذلك على الله تعالى؟ وقد قال تعالى: {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وقال في المظاهر: {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] فأسقط فرض الصوم عمن لا يستطيعه.
الوجه الثاني: أن الله تعالى أمر بالاستجابة لله وللرسول.
وذكر هذا الكلام في معرض الذكر والتحذير عن ترك الإجابة، ولو كان المراد ما ذكرتم لكان ذلك عذرًا قويًا في ترك الإجابة، ولا يكون زجرًا عن ترك الإجابة.
الوجه الثالث: أنه تعالى أنزل القرآن ليكون حجة للرسول على الكفار، لا ليكون حجة للكفار على الرسول، ولو كان المعنى ما ذكرتم لصارت هذه الآية من أقوى الدلائل للكفار على الرسول ولقالوا إنه تعالى لما منعنا من الإيمان فكيف يأمرنا به؟ فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل الآية على ما قاله أهل الجبر، قالوا ونحن نذكر في الآية وجوهًا: الأول: أن الله تعالى يحول بين المرء وبين الانتفاع بقلبه بسبب الموت، يعني بذلك أن تبادروا في الاستجابة فيما ألزمتكم من الجهاد وغيره قبل أن يأتيكم الموت الذي لابد منه ويحول بينكم وبين الطاعة والتوبة.
قال القاضي: ولذلك قال تعالى عقيبه ما يدل عليه وهو قوله: {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} والمقصود من هذه الآية الحث على الطاعة قبل نزول الموت الذي يمنع منها.
الثاني: أن المراد أنه تعالى يحول بين المرء وبين ما يتمناه ويريده بقلبه، فإن الأجل يحول دون الأمل، فكأنه قال: بادروا إلى الأعمال الصالحة ولا تعتمدوا على ما يقع في قلوبكم من توقع طول البقاء، فإن ذلك غير موثوق به، وإنما حسن إطلاق لفظ القلب على الأماني الحاصلة في القلب لأن تسمية الشيء باسم ظرفه جائزة كقولهم، سال الوادي.
الثالث: أن المؤمنين كانوا خائفين من القتال يوم بدر، فكأنه قيل لهم، سارعوا إلى الطاعة ولا تتمنعوا عنها بسبب ما تجدون في قلوبكم من الضعف والجبن، فإن الله تعالى يغير تلك الأحوال فيبدل الضعف بالقوة، والجبن بالشجاعة، لأنه تعالى مقلب القلوب.
الرابع: قال مجاهد: المراد من القلب هاهنا العقل فكان المعنى أنه يحول بين المرء وقلبه.
والمعنى فبادروا إلى الأعمال وأنتم تعقلون، فإنكم لا تؤمنون زوال العقول التي عند ارتفاعها يبطل التكليف.
وجعل القلب كناية عن العقل جائز، كما قال تعالى: {إِنَّ في ذلك لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] أي لمن كان له عقل.
الخامس: قال الحسن معناه، أن الله حائل بين المرء وقلبه، والمعنى أن قربه تعالى من عبده أشد من قرب قلب العبد منه، والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى لا يخفى عليه شيء مما في باطن العبد ومما في ضميره، ونظيره قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16] فهذه جملة الوجوه المذكورة في هذا الباب لأصحاب الجبر والقدر.
ثم قال تعالى: {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي واعلموا أنكم إليه تحشرون أي إلى الله ولا تتركون مهملين معطلين، وفيه ترغيب شديد في العمل وتحذير عن الكسل والغفلة. اهـ.

.قال ابن العربي:

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

.المسألة الْأُولَى: الِاسْتِجَابَةُ:

هِيَ الْإِجَابَةُ، وَقَدْ يَكُونُ اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَقَدْ قَالَ شَاعِرُ الْعَرَبِ:
وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إلَى النَّدَى ** فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ

.المسألة الثَّانِيَةُ: قوله تعالى: {لِمَا يُحْيِيكُمْ}:

لَيْسَ يُرِيدُ بِهِ حَيَاةَ الْمُشَاهَدَةِ وَالْأَجْسَامِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ حَيَاةَ الْمَعَانِي وَالْقُلُوبِ بِالْإِفْهَامِ بِدُعَائِهِ إيَّاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ، وَالْحَقِّ وَالْجِهَادِ، وَالطَّاعَةِ وَالْأُلْفَةِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ لِمَا يُحْيِيكُمْ فِي الْآخِرَةِ الْحَيَاةَ الدَّائِمَةَ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ.

.المسألة الثَّالِثَةُ: [في أَنَّ الْفِعْلَ لِلْفَرْضِ أَوْ الْقَوْلَ الْفَرْضَ إذَا أُتِيَ بِهِ فِي الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُها]:

ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا أُبَيًّا وَهُوَ يُصَلِّي، فَلَمْ يُجِبْهُ أُبَيٌّ فَخَفَّفَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مَنَعَك إذْ دَعَوْتُك أَنْ تُجِيبَنِي؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنْت أُصَلِّي قَالَ لَهُ: أَفَلَمْ تَجِدْ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا أَعُودُ.
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لِلْفَرْضِ أَوْ الْقَوْلَ الْفَرْضَ إذَا أُتِيَ بِهِ فِي الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ لِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَيٍّ بِالْإِجَابَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ إجَابَةِ النَّبِيِّ وَتَقْدِيمِهَا عَلَى الصَّلَاةِ، وَهَلْ تَبْقَى الصَّلَاةُ مَعَهَا أُمّ تَبْطُلُ؟ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى.
وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. اهـ.

.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ استجيبوا لِلَّهِ}، يعني أجيبوا الله بالطاعة في أمر القتال.
{وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} إلى القتال أو غيره.
وإنّما قال: إذا دعاكم، ولم يقل: إذا دعواكم، لأن الدعوة واحدة ومن يجب الرسول فقد أجاب الله تعالى.
قوله تعالى: {لِمَا يُحْيِيكُمْ}، يعني القرآن الذي به حياة القلوب، ويقال: {لِمَا يُحْيِيكُمْ}، يعني يهديكم في أمر الحرب الذي يعزّكم ويصلحكم ويقويكم بعد الضعف، ويقال: {لِمَا يُحْيِيكُمْ}، أي يهديكم.
ويقال: {لِمَا يُحْيِيكُمْ}، يعني لما يكون سببًا للحياة الدائمة في نعيم الآخرة.
{واعلموا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ}.
قال الفقيه: حدثنا محمد بن الفضل قال: حدثنا فارس بن مردويه، عن محمد بن الفضل، عن أبي صالح مطيع، عن حماد بن سلمة، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: يحول بين المؤمن ومعاصيه التي تسوقه وتجره إلى النار، ويحول بين الكافر وطاعته التي تجره إلى الجنة؛ ويقال: تحول بين المرء وإرادته، لأن الأمر لا يكون بإرادة العبد وإنما يكون بإرادة الله تعالى، كما قال أبو الدرداء:
يُرِيدُ المَرْءُ أَنْ يُعْطَى مُنَاه ** وَيَأْبَى الله إلاَّ مَا أَرَادَا

ويقال: يحال بين المرء وأجله، لأن الأجل حال دون الأمل.
وقال سعيد بن جبير: يحول بين الكافر والإيمان وبين المؤمن والكفر.
وقال مجاهد: يحول بين المرء وقلبه يعني حتى يتركه ولا يفعله.
ثم قال: {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}، يعني في الآخرة فتثابون بأعمالكم. اهـ.

.قال الثعلبي:

{يا أيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}
اختلفوا في قوله: {لما يُحييكم}:
فقال السدي: هو الإيمان يحييهم بعد موتهم أي كفرهم. وقال مجاهد: للحق. وقال قتادة هو هذا القرآن فيه الحياة والفقه والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة.
وقال ابن إسحاق: لما يحييكم يعني الحرب والجهاد التي أعزكم الله بها بعد الذل. وقوّاكم بها بعد الضعف ومنعكم بها عن عدوكم بعد القهر منهم لكم.
وقال القتيبي: لمّا يحييكم: لما يُتقيكم، يعني الشهادة. وقرأ قوله: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] فاللام في قوله (لما) بمعنى إلى ومعنى الاستجابة في هذه الآية الطاعة يدلُّ عليه ما روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أُبي بن كعب وهو قائم يصلّي فصاح له فقال: «تعال إلي»، فعجل أُبي في صلاته ثمّ جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما منعك يا أُبي أن تُجيبني إذا دعوتك؟ أليس الله يقول يا ايُّها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يُحييكم».
قال: لا جرم يا رسول الله لا تدعوني إلاّ أجبتك وإن كنت مصليًا.
قال: «تحب أن أُعلمّك سورة لم تنزل في التوارة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها»؟
قال أُبي: نعم يا رسول الله.
قال: «لا تخرج من باب المسجد حتّى تعلمها» والنبيّ صلى الله عليه وسلم يمشي يريد أن يخرج من المسجد فلما بلغ الباب ليخرج قال له أُبي: يا رسول الله، فوقف فقال: «نعم كيف تقرأ في صلاتك» فقرأ أُبي أُمّ القرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ما أُنزلت في التوارة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها وإنّها لهي السبع المثاني التي أتاني الله عزّ وجلّ».
{وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} قال سعيد بن جبير: معناه يحول بين الكافر أن يؤمن وبين المؤمن أن يكفر.
ابن عباس: بين الكافر وبين طاعته ويحول بين المؤمن وبين معصيته.
وقال مجاهد: يحول بين المرء وقلبه فلا يعقل ولا يدري ما يفعل، وروى خصيف عنه قال: يحول بين قلب الكافر وبين أن يعمل خيرًا.
وقال السدي: يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلاّ بإذنه.